قسمٌ من ذكريات نساء مدينة أنديمشك عن أعمال غسيل الملابس خلال فترة الدفاع المقدس
آخر يوم من صيف عام 1359
الراوية: تاجماه أسديبنه
من اختيار: فائزة ساسانيخاه
2024-10-2
كان لدينا غنم و كنّا نذهب إلى الأكواخ الصيفية. لقد كنت أقوم لوحدي بالإهتمام بأعمال الرعي بالإضافة إلى تعليم الأطفال. وقتها اشتريت منزلاً للأطفال في المدينة، كما حصلت على راعي لقطيع الماشية وأحضرت القطيع إلى نهر "كرخه" حيث خيّمنا بجوار الرعاة الآخرين. حينها كان لدي ستة أبناء وأربع بنات، و كلما لم يكن لدى الأطفال دروس كانوا يذهبون إلى قطيع الماشية. كنت أتنقل بين المدينة و منطقة كرخه مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع فقد كنّا نسير لمدة نصف ساعة حتى نصل إلى طريق دهران أنديمشك ثم نذهب إلى المدينة بالسيارة. كان أطفالي يحاولون مساعدتي و الوقوف بجانبي، والحمد لله كان لدينا سبعون أو ثمانين خروفاً وعدداً من البقر والحمير والبغال. كانت حياتنا بسيطةٌ و هادئة، لكن في اليوم الأخير من صيف عام 1359 قام "صدام" بزعزة هذا الهدوء؛ فوقتها سقط صاروخٌ في وسط منزلنا و تهدّمت غرفتان اثنتان. والحمدلله لم يلحق بالأطفال أذىً من جراء ذلك، وقمنا بعدها بجمع الأغراض من تحت الركام و غادرنا المكان برفقة القطيع.
عشنا بعدها تحت خيمة، و لم يكن لدينا كهرباء أو ماء لذلك كنت أحضر الماء من نهر كرخه باستخدام وعاء. يوماً بعد يوم أصبحت الحرب أكثر شدّةً، ويومياً من الليل حتى الصباح كانت تهتز الأرض تحتنا من شدّة أصوات المدافع و الدبابات حيث كان ذلك أشبه بالزلزال. وعندما كان الأطفال الصغار ويسمعون صوت المدافع، كانوا يصرخون ويركضون و يُلقون بأنفسهم في أحضان من يكبرهم سناً للإحتماء (للإختباء). كانت خيمتنا السوداء بالقرب من طريق أنديمشك - دهلران على الطريق الذي يعبره المقاتلين. وكنت كُلّما رأيتهم دعوتهم إلى داخل الخيمة و أعددت لهم الطعام. وبعد أيام قليلة، أصبحت الأراضي المجاورة لنا مكاناً لسكن المقاتلين حيث نصبوا خيامهم هناك. وكانوا يقولون لنا دائماً: "الوضع ليس آمناً هنا، غادروا." حيث لم يفصل بيننا وبين العراقيين سوى نهر كرخه المُتلاطم "الهائج."
لقد أصرّ المقاتلون كثيراً على أن نُغادر مما دفعنا أخيراً إلى جمع أغراضنا والذهاب إلى قرية "خلخالي". ومرة أخرى نصبنا خيمتنا هناك و جمعنا الماشية بجوارنا. كان يفصلنا عن نهر كرخه أربعة أو خمسة كيلومترات فقط. وكان هناك أيضاً سكنٌ خاص للقوات المقاتلة. كانوا يأتون ضمن مجموعات تنتظر تحت الخيام ثم تذهب ليلاً إلى خط المواجهة. كنت وقتها أخبز خبز الصاج و أحمله إليهم مع اللبن والزبدة. في أحد الأيام و كما جرت العادة، قمت بإتمام أعمالي في الصباح الباكر ثم أشعلت النار و أحضرت الصاج و أعددت خبزاً طرياً رقيقاً ثم وضعت سبعين أو ثمانين منهم في كيس كبير. كان اللبن الرائب (العيران) مُنعشاً جداً و رائحة الأعشاب العطرية تنعش المرء في هواء خوزستان الربيعي كما أن "الفيالة" وهي أحد النباتات الجبلية البرية التي كان أبنائي يقطفونها و يُحضرونها إلي عندما يأخذون القطيع للرعي، كنت دائماً أمزجها مع اللبن الرائب مما يجعله ألذّ طعماً. لقد سكبت اللبن الرائب الممزوج مع نبتة الفيالة في الوعاء، ثم وضعت الكيس على كتفي وأمسكت الوعاء في يدي. نعم لقد قمت بالكثير من الأعمال المُجهدة في حياتي و التي تحتاج رجالاً للقيام بها لذلك لم يكن الكيس و الوعاء ثقيلان بالنسبة لي. وقتها كان الإزدحام حول الخيام أكثر من الأيام السابقة و جاء إليّ اثنان من المقاتلين الشباب الذين عرفونني من بعيد و قالا: "أمي، لقد أتعبتي نفسك مرة أخرى!"
أجبت: "صحةً و عافية."
ثم أخذاهما مني و عدت أنا إلى المنزل.
في طريق العودة صادفت شُباناً في سن المراهقة كانوا يجلسون تحت أشعة الشمس بجوار قناة المياه، وكان هناك الكثير من الملابس بجانبهم حيث كانوا يقومون بغسلها. لقد احترق قلبي عليهم فذهبت إلى المنزل و أخذت علبتي مسحوق غسيل و صابون ثم رجعت إليهم وقلت: "صحيحٌ أن أمكم ليست هنا، لكن هل أنا مت لكي تغسلوا الملابس بأنفسكم؟"
جلست وأخذت أحد تلك الملابس فانحنت عندها رؤوسهم من الخجل و منعوني بشدة من القيام بذلك وكانوا يرددون: "لا يا أمي، هذه الألبسة يملؤها العرق و التراب. دعيها نحن نغسلها بأنفسنا."
قلت: " لقد جئتم هنا للقتال وليس لغسل الملابس. سأغسلها قبل أن تنتهوا من تناول غدائكم."
أخذت الملابس و طلبت منهم المُغادرة. يبلغ عمق القناة حوالي متراً واحداً وتأتي مياهها زُلالاً صافياً من سد دز في أنديمشك، إن شؤون العديد من القرى والمزارعين (الفلاحين) كانت تعتمد في القيام بها على هذه المياه. في الحرب أيضاً كانت هذه المياه تقضي حاجة الكثير من المقاتلين. كانت القُمصان و السراويل خضراء اللون و ترابية، فقمت بنقعها واحداً تلو الآخر ثم أضفت مسحوق الغسيل وغسلتها. وبعد ساعة عادوا بابتسامة على وجهوهم و هم مُطأطئين (خافضين) رؤوسهم ثم تشكروني و أخذوا الملابس و غادروا. شعرت عندها وكأنني أطير من الفرحة، فقد كان ما قُمت به عملاً جيداً لكي لا يشعر هؤلاء المقاتلون بالغربة ولا يفتقدوا عائلاتهم فهم كانوا مُجرّد مراهقين وكنت أنا بمثابة أم لهم.
بقينا في القرية خلال فصل الشتاء. ومرةً جاءت ليلة عاصفة وخشيت حينها أن يضرب البرق خيمتنا و تشتعل النار فيها. وكنت قلقةً أيضاً من صوت نباح الكلاب فقد أحسست أن ذئباً يوشك على مهاجمة القطيع لذلك بقينا أنا و ابني الأكبر خارج الخيمة ننتظر تحت المطر و نُراقب ما حولنا مُستخدمين مصباحاً يدوياً بعدها توقف المطر لكن كان مايزال هناك رعدٌ و برقٌ خلفنا. وفجأة نادى أحدهم: "أين صاحب المنزل؟"
قلت: "نعم"
قال: "من رب الأسرة هنا؟"
وجّهت المصباح نحوه و نظرت إليه من أعلا إلى أسفل فانعكس لون لباسه (زيّه) الأخضر في عينيّ ففهمت عندها أنه مقاتل كما أحسست أنه غريب لم يكن يعلم أنه قد وصل إلى مقر (مركز) المقاتلين، فقلت لنفسي لن أتركه يذهب إلى أي مكان في هذه العاصفة. فأجبت بسرعة: "إن مسيرك (طريقك) صحيح."
عندما أمعنت النظر، رأيت أن عدد المقاتلين خلفه لم يكن قليلاً فقد كان هناك ستين أو سبعين شخصاً منهم، ولم أكن قلقةً بشأن مكان إقامتهم لأنني دائماً كنت أنصب الخيام الكبيرة بجوار بعضها. شعرت في البداية بالاختناق في تلك المساحة الصغيرة والضيقة، فقال أحدهم: "أين زوجك؟" بدا أن السائل هو قائدهم و خطر لي للحظة أنني إذا قلت أن زوجي ميت فهو لن يأكل من طعامي و سيأخذ المقاتلين من هناك متذرعاً بحجّة ما و يغادرون لذلك أجبت: "إنه مريضٌ قليلاً و نائم."
أردت أن أذبح خروفاً لهم، لكن المطر و الظلام منعاني وحالا دون ذلك لذلك ملأت القدر بالماء و وضعته على الغاز وعندما غلا الماء سكبت فيه وعاءً من الشاي و أعطيتهم إياه مع أكواب وعدد قليل من الأوعية المليئة بالسكر. كانت خيام الجيران قريبة منا، فأرسلت ابني ليجلب الخبز من عندهم و فعلاً قمنا بإعداد وعاءين كبيرين من اللبن (الزبادي) مع خبز الصاج، و لم يكن لدي الكثير من الأطباق لذلك كان كل شخصين أو ثلاثة يأكلون في وعاء واحد، ثم نام الجميع تحت الخيمة. قلت لهم في الصباح الباكر: "إن زوجي متوفي، لكنني لم أقل الحقيقة لكي تبقوا هنا الليلة."
لقد قاموا بالدعاء كثيراً من أجلي ومن أجل أطفالي، ثم قام أحدهم بربط قطعة قماش بيضاء في زاوية الخيمة، بعدها قالوا لي إنهم من تبريز قبل أن يغادروا.
لم أعرف لماذا ربطوا قطعة القماش في زاوية الخيمة، لكنني بقيت أنظر إليها لعدة أشهر و أدعوا الله لكي يحفظهم أصحاء. لم أكن أعرف إن كانوا أحياء أم استشهدوا، لكن في أحد الأيام، جاءت شاحنة صغيرة إلى أمام الخيمة و كان صوت المقاتل مألوفاً بالنسبة لي، ذهبت لتحيته فقال: "يا أماه، جئناك بهذه الأشياء."
أجبت: "بُني، كنت أفكر فيكم كثيراً، أين أصدقاؤك؟! مرحباً بك."
فقال: "إنهم مشغولون في العمليات القتالية و قد أرسلوا لك هذه الأغراض (الأشياء)."
كان هناك السكر والشاي والأرز وما إلى ذلك، فقلت: "أخبرني أولاً من أين أتيت بهذه الأشياء؟! نحن مُستعدون للتضحية بأرواحنا من أجل المقاتلين لذلك خذ هذه الأشياء إلى جبهة القتال."
فأصر كثيراً وقال: "يا أماه، هذه هدية المقاتلين لك و سنشعر بالإستياء إذا رفضت أخذها."
رأيت أنه ليس لدي خيار سوى القبول و سريعاً أخبرت نساء القرية بالمجيئ و قسمّت الأشياء فيما بينهم ثم أخذت أقل حصة بينهم لكنني كنت سعيدةً جداً لأن بيتي أصبح مباركاً (مُتباركاً) بهدية المقاتلين تلك.
كنت أقوم بإنجاز أعمالي في وقت مبكر من كل صباح. ثم آخذ الصابون و مسحوق الغسيل وأذهب إلى قناة المياه. وكنت أصرّ و أتوسل لكي آخذ بطانيات و ملابس المقاتلين و أغسلها لهم، وبقي الأمر كذلك إلى تم تحرير مدينة خرمشهر وتقدمت تدريجياً خطوط المقاتلين إلى الأمام. لقد اشتقت لهم كثيراً، لقد ذهب أبناي عبد الرضا وحجة الله إلى الجبهة منذ شهرين أو ثلاثة أشهر لذلك سألت أحد معارفي الذي يملك شاحنة صغيرة: "هل يُمكن أن آخذ بعض الطعام إلى خرمشهر؟"
لقد قبل ذلك و ساعدني جميع القرويون وملأنا شاحنته بالخبز و أنواع الطعام و كنت أرغب في رؤية أبنائي عند ذهابي إلى خرمشهر.
في الطريق المؤدي لمدخل المدينة، قمت بتوزيع المواد الغذائية على المقاتلين. لكن للأسف لم أرى أبنائي و رجعت بعدها إلى المنزل.
لقد قمت بعدها بتزويج ابني عبد الرضا و بقيا هو و زوجته يسكنان معي. وفي نهاية شتاء عام 1363 أراد الذهاب إلى الجبهة، لقد أردت أن يبقى معي حتى قدوم عيد النوروز، لكني لم أُصرّح بذلك وقبل أن يُغادر قلت له: "ادع أصدقائك لتناول العشاء."
لقد كان العديد من أصدقائه هم رفاق سلاحه وقمت وقتها بذبح خروفين اثنين وأعددت لهم الشواء كما قمت بدعوة الجيران لتناول العشاء. وفي اليوم التالي ذهب إلى الجبهة وبعد يومين استُشهد في عمليات "بدر" وبعد استشهاده أصبحت أفكر بالمقاتلين أكثر وأرسل لهم الطعام و كنت أردد: " ليس كل أبنائي شهداء، إن بقية المقاتلين هم أبنائي أيضاً". كما انضم بعد ذلك ابني الآخر محمد رضا إلى الجبهة و أُصيب بالأسلحة الكيميائية في وقت لاحق[1].
كنت أمنع الخبز عن أبنائي و أقدّمه للمقاتلين فقد كانوا جميعاً مثل أبنائي. وبعد مرور خمس سنوات على الحرب، كنت لا أزال منخرطةً (جزءاً) فيها فبتاريخ 19 من شهر اسفند عام 1372 و عندما أخذ ولداي حجة الله وغلام رضا القطيع إلى الجبال للرعي اقتربا من نهر كرخ و داسا على لغم أرضي واستشهدا. كان فقدان أبنائي أمراً صعباً للغاية لكن كلما أردت أن أحزن عليهم و أبكي كنت أتذكر المراهقين و الشباب الذين كانوا يغسلون الملابس على ضفاف النهر بعيداً عن أمهاتهم، وهم يبتسمون ثم يذهبون إلى خط الجبهة (المواجهة) و لا يعودون أبداً[2].
[1] استُشهد محمد رضا عباسي بنه بتاريخ 24 عام 1398 بعد أن عانى من آثار إصابته لسنوات طويلة، لتصبح بذلك السيدة اسديبنه أماً لأربعة شهداء.
[2] المصدر: مير علي، فاطمة السادات، حوض الدماء، رواية نساء مدينة أنديمشك عن أعمال غسيل الملابس خلال فترة الدفاع المقدس، طهران، دار النشر راه باز، 1399، ص413.
عدد الزوار: 188
جديد الموقع
الأكثر قراءة
تجهيز مستشفى سوسنگرد
وصلنا إلى سوسنگرد قُبَيل الظهر. كان اليوم الثالث عشر من تشرين الأول عام 1980. لم يكن أمرها مختلفًا عن أهواز بل كانت أمرّ حالًا منها. كان قد غمرها التراب والدمار. وقد خلت من أهلها إلا ما ندر. كما أعلنت منظمّة الهلال الأحمر في أهواز، كانت لا تزال المدينة في متناول قصف العدو، ولم يأمن جانب منها من وطء القذائف والقنابل. لقد أوصلنا أنفسنا إلى مستشفى المدينة بسرعة. ما زال بابها ولوحتها سالمَين. تتقدّم المستشفى ساحة كبيرة قد حُرِث جانب منها. كأنها قد هُيّئت قبل الحرب لزرع الفسائل والزهور.التاريخ الشفهي للدفاع المقدس برواية حجة الإسلام الشيخ محمد نيازي
الهيئة القضائية للقوّات المسلّحة (محافظة خوزستان)لقد صدر عن حرس الثورة الإسلامية ومركز الوثائق والدراسات للدفاع المقدّس في عام 1401 ه.ش. كتابُ التاريخ الشفهي للدفاع المقدّس برواية حجة الإسلام الشيخ محمد نيازي، تحت عنوان الهيئة القضائية للقوّات المسلّحة (محافظة خوزستان) وبجهود يحيى نيازي. تصميم الغلاف يحاكي مجموعة الروايات التاريخية الشفهية للدفاع المقدس الصادرة عن هذا المركز. إذ قد اختار هذا المركز تصميمًا موحّدًا لأغلفة جميع كتب التاريخ الشفهي للدفاع المقدس مع تغيير في اللون، ليعين القارئ على أن يجدها ويختارها.