مقطع من يوميّات طبيب فلسطيني من تل الزعتر


2023-12-11


الأحد 12 تموز

الماء.. الماء، أخذ يتناقص.. وكان كوب الماء الواحد إذا توفّر، يدور على أفواه عدد من الحاضرين، كل يتناول رشفة يبلّ فمه، وبودّه لو يبتلع كلّ ما فيه.

كنّا بين الحين والآخر، وبحسب ما يتوفّر لنا من المازوت، نشغل المولّد الكهربائي لضخّ كميّات من مياه البئر الإرتوازيّة. مياه البئر طعمها غريب، ولونها أغرب، ولكن بالنسبة لنا كانت الماء الذي نحتاج.

كان الممرض «نظيم» وهو ممرّض نشيط، وذو خبرة جيّدة في مجال التمريض، مما كعلنا نوكل إليه أن يشرف على غيار الجروح، كان يقوم بجولته اليومية، على مختلف النقاط الطبيّة للغيار على الجروح، وتفقّد الجرحى والمصابين، وقد ابتكر طريقة عمليّة في حمل المواد اللازمة للغيار، كان يحمل في عنقه ما يشبه «كشة» البائعين المتجوّلين يضع فيها كل ما يلزمه في عملة من مطهرات وضمادات.

لقد أبدع طاقم التمريض في عمله في كل المجالات، وقد دربناهم نظريًا وعمليًا، على أسلوب التعاطي مع مختلف الإصابات في حالات الطوارئ. وكانت هناك توجيهات طبية مكتوبة ومعلقة على الحائط في غرقة الطوارئ، تشرح ماذا يجب علمه حسب نوعية الإصابة. ولقد قاموا بواجبهم كفريق عمل طبي على أحسن وجه، على الرغم من كثافة عدد الجرحى والمصابين، والنقص في الإمكانيات الطبية، مما جعلنا نشعر أننا لسنا طبيبين فقط، وإنما نعمل بطاقة عشرين طبيبًا، بفضل الجهاد الاستثنائي والعظيم الذي يقوم به الممرضون والممرضات وباقي المتطوّعين. فقد تدرب المتوطع «طه» على أخذ صور الأشعة وأجاد في ذلك. أما الممرض «عارف» فقد ساعدناه على إتقان عملية التخدير العمومي بما هو متوفر وأقام بعمله بطريقة ملفتة، ولم يكن متوفرا لدينا إلا «الإيثر» و «والكاتلار»، وقد ساعدنا ذلك في إجراء عمليات كبيرة ومعقدة. وكان هناك مهارات لدى الطاقم الطبي بالعناية بإصابات الرأس وإصابات الصدر واستعمال الأوكسيجين وأدوات الشفط من فتحة القصبة الهوائية والأنابيب الصدرية. وإعطاء وحدات الدم.

قررت في هذا الثوم القيام بتفقد الجرحى والمصابين في بعض النقاط الطبية، وبعدها الذهاب إلى المستشفى نهارًا، لأتفقد الجرحى هناك.. سلكت مع ممدوح، طريقًا لا أعرفه بين البيوت المهدمة.. وفجأة كنا نمشي وسط منطقة مكشوفة، فانهال علينا رصاص القنص من عدة اتجاهات، واختبأنا وراء بقايا جدار.. فاستقرّت إحدى الرصاصات فوق رأسي بما لا يزيد عن عشر سنتيمترات، وشعرت أننا وقعنا في مصيدة، إلى أن اهتدى ممدوح، إلى طريق آمنة، فركضنا متابعين طريقنا إلى المستشفى.

كانت مجموعة من الناس قد أخذت تستخدم جزءا من المستشفى كملجأ.

وسرعان ما بدأ يغصّ بالأهالي الذين يستخدمونه ملجأ. كان الجو في المستشفى خانقًا.

وخاصة في الطابق السفلي، وكنّا نشق طريقنا إلى غرف الأقسام بصعوبة، من جرّاء تكدّس الأهالي في الممرّات وعلى الأدراج، وصلنا إلى غرفتنا العتيدة، ولأنها الأكثر أمانًا فقد كنّا قد نقلنا الأدوية إليها، بعد أن قصف مستودع الأدوية.

حملنا معنا بعض الأدوية، وسلكنا طريقًا آخر أثناء عودتنا. كان منظر التلال التيي تحيط بالمخيّم رهيبا.. نصبت عليها دباباتهم ومدافعهم.. وكانت مساحة المخيّم تتقلّص كلّ يوم، فكلّما تهدّمت أبنية، تراجع الأهالي إلى البنايات المجاورة، وهكذا تجمّع الأهالي في مساحة لا يعدو طولها كيلو متر وعرض خمسمائة متر.

كانت منطقة البرج العالي أكثر الجبهات اشتعالًا. البرج العالي، حيث كانوا يحاولون التقدّم إلى منطقة رأس الدكوانة. المنطقة محصّنةن تمامًا، وأكياس الرمل والمتاريس تسدّ مداخل الأبنية، وعلى العمارات المجاورة، ينتشر القناصة.. يصطادون كل من يقع تحت أنظارهم، ومرمى رصاصهم. في هذه الليلة، هاجم المقاتلون هذه الأبنية، ووضعوا عبوات ناسفة، ودمّروا الطابق الأرضي والدرج حتى لا يعود بالإمكان الصعود إليها والقنص منها.

 

الثلاثاء 13 تموز

لم تعد الحياة داخل المخيّم عادية، وتبدّل الكثير من المفاهيم الاجتماعية واليومية. سادت الروح الرفاهية والجماعية عند الأهالي، ولم يعد للنقود والماديات أي قيمة، فكانوا يقتسمون فيما بينهم ما يتوفّر من طحين ومعبات.

بدأت حياتنا تبدو بدائية.. كل شيء كان يطبخ ويحضر، على النار الحطب.. وعندما نفذ الحطب، بدأ الأهالي يستعملون أبواب ونوافذ البيوت المهدّمة.. ينتهزون فرصة حلول الظلام، لجمعها وإحضارها، وذلك تفاديًا للقنص. أما الماء فأصبح مشكلة مستعصية، عانينا منها الكثير، وخاصة في مركز الطوارئ، عندما فقدت المطهّرات والأدوية، ولم يعد بإمكاننا إلا استعمال الماء والملح، لتطهير الجروح.. كنّا نطلب من الجرحى وذويهم الذين يحضرون للغيار على جروحهم، أن يجلبوا معهم زجاجة ماء، مع بعض الملح إذا توفر ذلك.

العلاقات الاجتماعية والإنسانية، تغيّرت كثيرًا بتأثير الحصار.. وخاصّة التقاليد الموروثة في مجتمعنا الشرقي. كان الأهالي يحشرون أنفسهم رجالًا ونساءً وأطفالًا في الملاجئ الضيّقة، كنّا كأطباء وممرضّين وممرّضات نفترش الأرض سويّا وفي نفس الفراش في تلك المساحات الضيقة. ولم يكن ذلك ليثير أحدا. وكثيرًا ما كانوا يأتون لإيقاظنا، لأن جريحًا قد وصل.. وقد قرّبنا الحصار والإحساس باقتراب الموت إلى بعضنا البعض.

كانت الشمعة ترسل نورها المتراقص، الخافت والوحيد في تلك الغرفة المظلمة، وأنا أنظر إلى جدران تلك الغرفة المتّشحة بالسواد، ورائحة الشمع التي اعتدنا عليها تملأ فضاء الغرفة.

في تلك الليلة دخل علينا أحد المقاتلين «علي» وهو مقاتل في السابعة عشرة من عمره، وكانت الساعة تقارب الحادية عشرة ليلًا.. كان منفعلًا. لقد أصيب رفيقه وهو ينزف، وبحاجة إلى نقل دم.. ما العمل؟ قلت له: «إن رفيقك بحاجة لدم». ولم نكن آنذاك قادرين على تخزين وحفظ وحدات وأكياس الدم، نظرًا لعدم وجود كهرباء، وبالتالي عدم استعمال الثلاجة. خرج «علي» وعد بعد فترة قصيرة، ومعه مجموعة من النساء كن في طريقهن للبحث عن الماء. كان منفعلا ولم يكن يعي ما يفعل.. أفهمناه أن هذا مستحيل! فالنسوة كن مرهقات، ونحيلات ومن بينهن المرضعات. بعد قليل حضر بعض الشباب والرجال وتبرعوا بالدم. وهدأت ثورة «علي». الذي كان خائفا على رفيقه.

[1] د. يوسف عراقي، يوميّات طبيب في تل الزعتر، حيفا، 2016، الطبعة الثالثة، ص 54 ـ 56.

 



 
عدد الزوار: 1100


التعليقات

 
الاسم:
البريد الإلكتروني:
التعليق:
 
نبذة من مذكرات ايران ترابي

تجهيز مستشفى سوسنگرد

وصلنا إلى سوسنگرد قُبَيل الظهر. كان اليوم الثالث عشر من تشرين الأول عام 1980. لم يكن أمرها مختلفًا عن أهواز بل كانت أمرّ حالًا منها. كان قد غمرها التراب والدمار. وقد خلت من أهلها إلا ما ندر. كما أعلنت منظمّة الهلال الأحمر في أهواز، كانت لا تزال المدينة في متناول قصف العدو، ولم يأمن جانب منها من وطء القذائف والقنابل. لقد أوصلنا أنفسنا إلى مستشفى المدينة بسرعة. ما زال بابها ولوحتها سالمَين. تتقدّم المستشفى ساحة كبيرة قد حُرِث جانب منها. كأنها قد هُيّئت قبل الحرب لزرع الفسائل والزهور.

التاريخ الشفهي للدفاع المقدس برواية حجة الإسلام الشيخ محمد نيازي

الهيئة القضائية للقوّات المسلّحة (محافظة خوزستان)
لقد صدر عن حرس الثورة الإسلامية ومركز الوثائق والدراسات للدفاع المقدّس في عام 1401 ه.ش. كتابُ التاريخ الشفهي للدفاع المقدّس برواية حجة الإسلام الشيخ محمد نيازي، تحت عنوان الهيئة القضائية للقوّات المسلّحة (محافظة خوزستان) وبجهود يحيى نيازي. تصميم الغلاف يحاكي مجموعة الروايات التاريخية الشفهية للدفاع المقدس الصادرة عن هذا المركز. إذ قد اختار هذا المركز تصميمًا موحّدًا لأغلفة جميع كتب التاريخ الشفهي للدفاع المقدس مع تغيير في اللون، ليعين القارئ على أن يجدها ويختارها.
أربعون ذكرى من ساعة أسر المجاهدين الإيرانيّين

صيفُ عامِ 1990

صدر كتاب صيف عام 1990، بقلم مرتضى سرهنگي من دار سورة للنشر في سنة 1401ش. وبـ 1250 نسخة وبسعر 94 ألف تومان في 324 صفحة. لون غلاف الكتاب يحاكي لون لباس المجاهدين، ولون عنوان الكتاب يوحي إلى صفار الصيف. لُصِقت إلى جانب عنوان الكتاب صورة قديمة مطوية من جانب ومخروقة من جانب آخر وهي صورة مقاتلَين يسيران في طريق، أحدهما مسلّح يمشي خلف الآخر، والآخر يمشي أمامه رافعًا يديه مستسلمًا.
الدكتور أبو الفضل حسن آبادي

أطروحات وبرامج التاريخ الشفوي في "آستان القدس الرضوي"

أشار رئيس مركز الوثائق والمطبوعات لآستان قدس الرضوي، إلى أطروحات "تاريخ الوقف والنذور الشفهي" و"تاريخ القراءات القديمة في الحرم الشفوية" وعلى أنها أحدث المشاريع للمركز وقال: "إنّ تسجيل تاريخ الموقوفات لآستان قدس الرضوي الشفوي في عدّة مدن، هو مشروع طويل المدة. وتأسس مؤخرا قسم الدراسات للقراءت في مركز الوثائق وهو ضمن مجموعة مركز الدراسات". وفي حواره مع موقوع التاريخ الشفوي الإيراني قال الدكتور أبو الفضل حسن آبادي، شارحا برامج المركز:
مكتبة الذكريات

"أدعو لي كي لا أنقص"،"في فخّ الكوملة" و"تكريت بنكهة خمسة خمسة"

سوف تتعرفون في هذا النص، على ثلاثة كتب صدرت عن محافظتين في إيران: " أدعو لي كي لا أنقص: الشهيد عباس نجفي برواية زوجته وآخرين" من المحافظة المركزية وأيضاً كتابي "في فخّ الكوملة: ذكريات محمد أمين غفار بور الشفهية" و"تكريت بنكهة خمسة خمسة" وهي ذكريات أمين علي بور الشفهية" من محافظة كيلان. إثنان من المعلّمين ألّفـت السيدة مريم طالبي كتاب "أدعو لي كي لا أنقص". يحتوي الكتاب علي 272 صفحة وثلاثة عشر فصل، حيث تم إنتاجه في مكتب الثقافة