مذكرات والدة شهيد ياباني في إيران
إعداد: فائزة ساساني خواه
ترجمة: حسن حيدري
2022-05-14
حلّ ربيع 1983م. اجتمع جميع أفراد الأسرة حول طاولة هفت سين و قرأنا معاً دعاء تحويل السنة الجديدة معًا وجلسوا ليستمعوا لرسالة الإمام الخميني النوروزية. بعد لحظات قرأ الإمام آيات من القرآن الكريم كعادته السنوية وأعطى عيدية لجميع الأطفال. في ذلك اليوم، كانت كل الأنظار تتجه نحو محمد الذي كان على وشك العودة إلى الجبهة. كانت أيام نوروز. قال محمد، "أمي، هل تذكرين أني ذات يوم عندما ذهبت إلى المدرسة حلقتي رأسي ؟!"
قلت مبتسمة: "نعم، أتذكر جيداً.أتذكر حتى أنه عندما تم قص شعرك، رأيت نفسك في المرآة وقلت إنه كان سيئًا للغاية!" ابتسم بلطف وقال، "كان الأمر سيئًا للغاية لدرجة أنني عندما ذهبت إلى المدرسة، قالوا إننا سنخفض درجة انضباطك، واضطررت للذهاب إلى الحلاق مرة أخرى، وتمتم مصفف الشعر وكان متذمراً وقال لي: لماذا لم تأت لي؟
سألته: والآن ماذا حدث لتتذكر الحلاق ؟!
قال:" أريدك أن تحلقي شعري مرة أخري.
قالت وهي ضاحكة: أتريدني أن أفعل بشعرك كما فعلت من قبل؟
لم يتأخر. أحضر مشطاً ومقصاً وأعطاني إياهما. لقد شعرت بألم كبير في تلك اللحظة. مسحت علي رأسه وقصّصت شعره بالمقص. وعندما انتهى، قال: "من أجل صحة وسلامة الأم الوحيدة للشهيد الياباني صلوا علي النبي وآله. ردد الصلوات ونهض من كرسيه ووقف أمامي بكل قوته. ذات يوم شعرت أنّ طوله كان أطول من ذي قبل وأن وجهه أصبح أجمل من ذي قبل. شهد قلبي أنني لن أرى هذا الصبي مرة أخرى، وهذه هي زيارتنا الأخيرة. في صباح اليوم التالي التقط حقيبته وودع جميع أفراد الأسرة وغادر.
بعد أقل من أسبوع من مغادرته، أحضر الباسيج رسالة إلى المنزل. هدأت عندما رأيت خط يد محمد فوقه. فتحت الرسالة التي كتب عليها: "كنت في الجبال على الجبهة الغربية، لكنني جئت الآن إلى الجنوب. إنّ الصحاري التي هي خطى الشهداء وفي كل مكان لها دور دماء الشهداء حتى لا تقع هذه البلاد في أيدي المعتدين. "من الصعب والله أن نتخلي عن هذه الأرض المقدسة".
قرأت الرسالة عدة مرات وذرفت الدموع. استقر في روحي شعور بالفخر والإعتزاز. قرأ السيد الرسالة فقال: "إختار محمد الصراط المستقيم ونحن نستسلم لله عزوجل" . سماع هذه الجملة من السيد أظهر أنه أعد جهاده لأي حدث بإيمان ويقين في الحق، كما أنني حاولت أن أصل إلى مستوى اليقين وراحة القلب من خلال قراءة القرآن.
بعد بضعة أيام، طغى هجوم كبير على الجنوب يسمى والفجر 1على كل أخبار البلاد. [1]
في يوم 13 من أبريل، كنت أرسم للطالبات في مدرسة (رفاه)، لكنني شعرت بتدهور صحتي فجأة. كان الألم يغلي بداخلي، وظهر للعلن، وتألمت وفجأة بكيت مثل سحابة الربيع. نظر الطلاب إليَّ بدهشة. أنا نفسي لم أكن أعرف ما حدث، فالتفت إلي الجميع. كان معظم الطلاب من أبناء كبار المسؤولين. خرج أحدهم من خلفي وقال: "السيدة بابائي، لا سمح الله، هل حدث شيء لابنك في الجبهة؟"
قلت: "أنا لا أعرف ما حصل لي أيضاً. شعرت وكأن روحي خرجت من جسدي للحظة."
عدت إلى المنزل دون إعطاء أي تفسير للمعلمين والطلاب ودون وداع. كل شيء كان طبيعياً. كان سلمان يعمل في معمله وبلقيس كانت تلعب مع زينب. جاء السيد في المساء؟!"عندما رأي لون وجهي شاحباً قال: "سيدتي، يبدو أنك لست على ما يرام!" قلت: "أنا بخير الآن. لكن في بداية الدرس كنت مستاءة ولم أفهم لماذا ؟ هل حدث شيء لمحمد ؟! قال الرجل لا.
لم يكن الرجل يخفي عني سراً ما. لو كان لديه أخبار لذكرها. في تلك الليلة، ذهب هو وسلمان إلى مسجد أنصار الحسين لصلاة المغرب، وبعد الصلاة عاد إلى المنزل قبل موعوده كما كان يعود في الليالي السابقة. كان وجهه أبيض جداً. لم يستطع الكلام. قلت: استشهد محمد ؟! أغمض عينيه وأطرق رأسه وانهار وبدأ يبكي. كما علمت بلقيس ببكائي. بكيت كثيراً. لكن الرجل كان يحدق في زاوية ما. فلما رأى أني قلقة جداً قال: محمد كان أمانة الله عندنا. لله ما أخذ ولله ما أعطي. "يجب علينا أيضاً أن نكون راضين برضاء الله عزوجل".
ذهبت وتوضأت. وبينما كنت أبكي بلا انقطاع، وصل سلمان بعد بضع دقائق. كان على علم بصمته وبصره، ولم أكن أعلم أنه نقل خبر استشهاده للرجل على الإطلاق. [2]
في تلك الليلة، جاء عدد كبير من السكان والمصلين في المسجد إلى منزلنا مع إمام المسجد. وكان بعضهم آباء أو أمهات شهداء [3]. لم أبكي أمام أمهات الشهداء، لكن قلبي كان ثقيلاً كالجبل. منذ اليوم التالي، جاء الناس والأقارب لتقديم التعازي لعدة أيام متتالية. كانت هناك غرفة بها صورة محمد في الشارع، وفي كل مرة أراها تشتعل النيران في كبدي وعادت الحياة إلى مشهد الوداع في ذاكرتي.
بعد أيام قليلة، كنت أجلس وحدي في المنزل عندما طرقوا الباب. تقدمت ورأيت جنديين قادمين. قالا: هذه الحقيبة هي متعلقات محمد الشخصية. أغلقت الباب وعلى الفور أمسكت الكيس وجلست. فتحته؛ كانت رائحة محمد تفوح منه. وكان فيه خط يده مع مصحف صغير وكتاب دعاء. كان الجو حاراً وبدأت في الضرب على صدري مثل أمهات الشهداء الإيرانيين. ربما لم أر نفسي قريبة جداً من معاناة السيدة زينب (سلام الله عليها) حتى ذلك الحين. لطالما أخبرني السيد عن فلسفة الحزن والعزاء، وأشار إلى السلام والهدوء بعد العزاء. لقد هدأت حقاً بعد بضعة أيام.
بعد أسبوع، تم إحضار جثة محمد من الجبهة مع شهيد آخر من المقاتلين المحليين. وانطلق موكب الجنازة من مسجد أنصار الحسين والشارع الخامس للقوات الجوية إلى شارع بيروزي وسط حشد كبير. جاء معظم السكان المحليين إلى مقبرة الزهراء. نظرت إلى وجهه عندما أرادوا دفن محمد. كان ينام بسلام تماما مثل أيام طفولته. أخذ الرجل يدي وفصلها عنه، وقال لشخص جاء من مؤسسة الشهيد أن يكتب على قبر محمد: "اسم الأم: كونيكو يامامورا".
حتى ذلك الحين، لم يناديني أحداً باسمي الياباني. كنت متأكدة من أنه يريد أن يقول إنك اليابانية الوحيدة في إيران التي أصبحت والدة شهيد، وكانت هذه آخر جملة لمحمد في لقائنا الأخير.
من اليوم التالي، أينما نظرت، رأيت أثراً لذكرياته، وأردت أن أرى رفاقه، وقد جاءت مجموعة منهم إلى منزلنا بعد العملية. سمعت من سلمان أن أقرب أصدقاء محمد كان شاباً اسمه أحمد نصر اللهي. لقد جاء أيضاً مع رفاقه. أظهر وجهه الصامت والحزين أنه لا يريد التحدث عن استشهاد محمد. قال أصدقاؤه إنه أعاد جثمان محمد للخلف. عندما سمع والده ذلك أصر على أن يخبره أحمد نصر اللهي بما حدث في تلك الليلة.
أخفض رأسه وتحدث على مضض: "كنا في منطقة شرهاني، وقبل دخول المشاة ككتيبة تدمير للألغام، تحركنا قبل الآخرين لنزع فتيل الألغام وإفساح المجال أمام المقاتلين لعبورهم. على ما يبدو، أعدّ العدو نفسه لمواجهتنا. وبمجرد إبطال مفعول عدد من الألغام أطلق العدو نيرانه من التلال. كان حجم النار كبيراً لدرجة أننا تشبثنا بالأرض. كان محمد بجانبي. حفرنا الأرض بقبعتنا الحديدية لنصنع ملجأ. لكن الأرض كانت صلبة. إطلاق قذائف مدفعية وهاون عيار 60 ميلي متر بشكل متواصل. وضعنا خوذة حديدية حيث اتصلوا بنا لاسلكياً من الخلف إلى أنّ المشاة لا يمكنهم القدوم. أنتم أيضا تراجعوا للخلف. فجأة رأيت محمد يحني رأسه. اخترقت الشظية قبعته من الأمام وكان الدم يسيل من خلف رأسه ...[4]
------------------------------
[1] العميد جعفر جهروتي: "بعد الهزيمة في عملية والفجر الأولية، بدأت عملية والفجر 1 في المنطقة الشمالية الغربية من الفكة حتى مرتفعات حمرين في الساعة 10:10 مساءً يوم 10 أبريل 1983 م، حيث تم تحرير جزء من مرتفعات حمرين، عدة قرى على طول الطريق و نهر دوبرج ونقطة التفتيش الحدودية التي غطت مساحة إجمالية قدرها 150 كيلومترا..كما عمل فيلقنا في منطقة شرهاني علي ثلاثة محاور (مقابلة شخصية،31/12/2019م).
[2]سلمان بابايي: بعد الصلاة كنا نقف في الزقاق وأمام المسجد مع ثلاثة أو أربعة أشخاص عندما وصل سائق دراجة نارية يرتدي الزي الأخضر التابع للحرس الثوري. سألني: سيدي هل تعرف هذا العنوان؟ أخذت الورقة وقرأت كانت تشيرإلي الشارع الخامس للقوات الجوية - منزل الشهيد محمد بابائي – حينها سكت ولم أقل شيئاً. جاء هذا الشخص من الوحدة المتعاونة للحرس الثوري لإبلاغ الأسرة بالاستشهاد. سأل مرة أخرى: "سيدي، هل تعرف هذا العنوان؟" قلت: نعم عنوان بيتنا وهذا الشهيد أخي! وصُدم الطرف الآخر واعتذر قائلاً: "أنا آسف لأنني أخبرتكم بهذا الشكل. وقلت: "كنا مستعدين لسماع هذا. اذهب وسأخبر والديّ عما حدث لأخي". (مقابلة شخصية، كوالالمبور،26/11/2019م).
[3] قال آية الله حميدي إمام مسجد أنصار الحسين:"قال مجلس أمناء المسجد إنّ محمد بابائي استشهد، عليكم إخبار السيد بابائي". بعد ذلك ناديناه. قلت مقدمة وجيزة، بما في ذلك أننا جميعا سوف نموت. لن يبق أحد في هذا العالم. طوبى لمن يسعد بالاستشهاد و .. كنت أقول هذه الأشياء التي ذكرتها، فجأة قاطعني السيد بابائي في منتصف حديثي وقال: هل تريد أن تقول إنّ محمد استشهد؟ طوبى لسعادته.
قال وداعاً .. وعند استشهاد أحد الاهالي كان من المعتاد ان نذهب الى بيت الشهيد مع المصلين. أخبرت السيد بابائي أننا نريد أن نأتي إلى منزلك في الليل.لأنه كان شخصاً قانونياً قال لي:"أرحب بقدومكم شريطة أن تبقوا ساعة واحدة في بيتي فقط لأستقبل تبريكاتكم وليس تعازيكم. (مقابلة شخصية،24/11/2018م).
[4]حسام،حميد، أميرخاني مسعود، مهاجر إلى أرض الشمس، مذكرات كونيكو يامامورا (سابا بابائي)، الأم الوحيدة لشهيد ياباني في إيران، طهران، منشورات سورة مهر، 2020م ، ص 168.
عدد الزوار: 2436
http://oral-history.ir/?page=post&id=10536