حكاية زائر:

البيوت الموقوفة للإمام الحسين


فائزة ساساني خاه
ترجمة: هادي سالمي

2020-10-19


يوم الجمعة 25/10/2018 الساعة الثامنة والنصف صباحا، وبعد توديع أمير المؤمنين علي (ع) تحّركنا ضمن المشائة حيث مخرج مدينة النجف. وبعد مسافة قصيرة وصلنا إلى دوار نعبره كلّ عام ولكننا كنا مترددين هل نسير على الناحية اليمنى أو اليسرى؟

سأل أحد الأصدقاء وكان من عرب خرمشهر شرطيا يقف قرب محطة من أين جهة نسير فقال على اليسار.

أمامنا مقبرة وادي السلام، قرانا الفاتحة من بعيد  وأكملنا طريقنا. كان الطريق غريبا علينا، أنا مطمئنة أننا لم نعبر من هنا.

كلما تقدمنا لا نصل إلى مخرج المدينة ولكن الطريق ممتع. الطريق ضيقة ولكنها مزدحمة بالسائرين إلى كربلاء ويزيد الحشد مع كلذ لحظة. هناك زحام، بدأت الضيافة من أمام البيوت وكان أصحابها ينتظرون قدوم الزوار. كلّ أبواب البيوت مشرعة من أجل الزوار ووضعوا الحمامات وغسلات الثياب تحت أمرهم.

استقبلت المواكب في بداية الطريق السائرين بالزلابيا الساخنة والفلافل، توزّع بعض المواكب عصير الليمون والبعض يسكب القهوة والشاي وبعد مسافة هناك رجل ينزل صناديق موز من سيارته الفاخرة ويوزعها.

 وكما هو حال كلّ عام وقف الأطفال في الأزقة والشوارع يقدمون للزوار الماء او المحارم ويرحبون بهم عبر رشّ العطر على أيديهم. من ثيابهم يمكن معرفة طبقتهم الاجتماعية.

طوال سنوات زيارة الأربعين كنت أرى الأطفال ركنا أساسيا في الطريق. ولا فرق أن يكونوا فقراء أو أثرياء. فقد تعلموا من كبارهم أنهم لا شيء أمام الإمام الحسين وعليهم أن يخدموا الإمام الحسين وزواره ويتواضعوا.

حين أمرّ من أمام الفتيات أهديهن وردة  أو دبوس وأشكرهن باللغة الفارسية. رأيت في شارع موكب إيراني يقدّم الشاي للزوار ويقولون بصوت عالي: "أهلا وسهلا بزوار أبو السجاد... كم اشتاق قلبي لهذه الجملة. وقف أحد الخدم على سرير ليمرّ الزوار من تحت قرآن حمله. سألت أحدهم كم أمامنا حتى نصل مدخل النجف، صبّ ماء نظيفا على أيدينا وقال: أمامكم طريق طويل!" ولكن الطريق جميل وكأننا دخلنا قطعة من النعيم ولا نريد الانفاصل عنه بسرعة.

قطعنا طريقا طويلا ولم نصل لمخرج المدينة. كان علينا أحيانا التوقف حتى يجتمع الجميع. وصول شاب مريض أبطأنا. ووسط الزحام أضعنا أفرادا منا ولم نجدهم ولكننا نعلم أنهم خلفنا.

حان وقت الصلاة. نريد الصلاة ثمّ نتصل بمن تأخر ونحدد مكانا. دخلنا أحد البيوت. أزحت الستارة ودخلنا ساحة البيت التي كانت صغيرة جدا. قد يكون طولها عشرة امتار وعرشها ثلاث. في نهاية الساحة مرافق نظيفة وجديدة. كانت امرأة منشغلة بغسل المرافق وما أن رأتنا حتى ابتسمت ورحبت بنا. رددنا التحية عليها. العربة التي وضعنا حقائبنا عليها تركناها أمام الباب ودخلنا الصالة التي قد يكون طولها تسعة أمتار. هذا البيت أصغر من كلّ البيوت التي زرناها وقد لا تتجاوز مساحة البيت 60 مترا، ولكن صاحبة البيت وضعته تحت خدمة الزوار.

غرفتان مساحتهما تسعة أمتار، مطبخ صغير ومرافق ودرج مؤدي إلى الطابق العلوي. وضعوا الغسالة تحت تصرفنا.

رحبت بنا النساء الموجودات داخل البيت. كانت امرأة إيرانية قد وصلت قبلنا وهي تصلي. توضأنا وصلينا.

ارتدت ابنة صاحبة البيت ثيابا نظيفة وجميلة ومشطت شعرها للخلف،  جلست مع فتاة إيرانية على الدرج. يتحدثان العربية سويا، يكتبان جملا على ورقة ويضحكان. كانت الفتاة الإيرانية تعرف العربية جيدا. خمنتُ أنها من خوزستان. هي ابنة المرأة التي تصلي، سألت أمها: "من أيّ مدينة أنتم؟" قالت: "نسكن الأهواز".

أرادت المرأة الخروج من البيت ولكن ابنتها لا تريد الابتعاد عن صديقتها العراقية وكانت تراقب ما تكتبه. ولكنها خرجت في النهاية. لا تفارق الابتسامة شفتي ابنة صاحبة البيت معلنة عن سعادتها بحضورنا. كان هاتفي في يدي أخذت مني الهاتف وأدخلت رمز الواي فاي ولكنه لم يتصل. كنتُ مشغولة البال على ما كتبته في الورقة وكانت تري الورقة لصديقتها الإيرانية! وجدت أنها كتبت كلمات بالعربي وأمامها ترجمتها. كتبت كلمة جوع ولكن لم يكتب أمامها كلمة. أخذت قلم الحبر وكتبت ترجمتها. وكتبت ترجمة العصفور!

يحاول العراقيون عبر تعلم الفارسية أن يقتربوا من الإيرانيين ليعرفوا ما يريدون أو كيف يحترمونهم! في العام الماي كنا ضيوف موكب حبيب ابن مظاهر عند عمود 610، كان فتاة تحمل دفترا وسعت إلينا باسمة وطلبت منا معنى بعض الكلمات.

صديقتي السيدة سليمة، أمّ رضا من خرمشهر وهي كويتي الجنسية وتعرف العربية أكثر من الفارسية وكانت منشغة بالحديث مع صاحبة البيت. لا نودّ الخروج من هذا البيت ولكن علينا إكمال الطريق. أخرجت من حقيبة ظهري سكر نبات من مشهد وورود لأهديها لهم. يجب اجابة المحبة بالمحبة. وتولت السيدة سليمة مهمة شكرهم وأنا التي أصحبت عربيتي أفضل من الاعوام السابقة شكرتهم وقلت لهم بالعربي: "إن شاء الله نقوم بواجبكم في إيران". وودعتهم.

وقبل أن أتصل بالرفاق وجدتهم واقفين أمام أحد المنازل. لم يصلوا بعد ويريدون الاستراحة قليلا. دخلت معهم أحد البيوت. انشغلت النساء في تنظيف البقوليات. وبعد أن انهى الجميع الصلاة خرجنا واكملنا طريقنا. غطت السحب السماء وواضح أنها ستمطر. كانت الأجواء حارة وسعدنا لأنّ الشمس اختفت.

وبعد ساعات من المشي، خرجنا من المدينة في الساعة الثانية والنصف ووصلنا إلى الطريق الرئيس؛ الطريق الذي اشتقت له وكنت أنتظره منذ عام. لا أعرف كيف أشكر الله على عودتي لهذا الطريق. كل الطريق الذي قطعناه على جانب والخروج من النجف إلى كربلاء في جانب اخرى. الطريق الذي ازدحم فيه الناس له طعم آخر. حين كنت في طهران كنت مرتبكة. كنت أعدّ الثواني للسفر للوصول إلى العمود رقم واحد. كانت روحي تسبق جسدي أياما لتصل إلى هنا، وصلت للطريق ومشت وتنتظر حتى يصل جسمي ليكملا الطريق في طريق الحسين.

ليس حلاوة الفراق أقلّ من شوق الوصال

او كان العشق هدفا فمرحا للذة الطريق

أيها العشق استهم وامسك يدي...

السير في طريق عريض مريح. أينما وصل مدذ النظر هناك بشر يمشون على الطريقين. بدأت المواكب منذ بداية الطريق بضيافتها. يستقبلون الزوار بالشاي والقهوة والعصير البارد وأنواع الأطعمة.

تشعر بحضور الإيرانيين وعوائلهم، خاصة الأطفال والناشئة. وضع بعض العوائل أطفالهم في عربات ليزيدوا من سرعتهم.

جلس شابان عراقيان على سلم طويل وهما يصوران الزوار. سرت مع الأصدقاء حتى عمود 10 ولكن حسب طلب بعضهم توقفنا. سافر أحد الأصدقاء مع أخيه وإضافة على اعاقته، ظهره يؤلمه أيضا. تعب أخوه جدا ولم يعد يمكنه السير اكثر. الحق معه. سرنا من الصباح حتى الساعة 2 ظهرا وللتو وصلنا إلى عمود 10. ولو كنا قد سرنا من طريق آخر لكنا قطعنا على الأقل مائة عمود. تقرر أن نقضي الليل في بيت صديق عراقي وكان قد تعرف عليهم أصدقاءنا من خوزستان عليهم في رحلات سابقة. كانوا من شيعة النجف واستشهد أخوهم في حرب مع داعش. ووعدت رفقة السفر المبيت عنده.

لم أود لا أنا ولا صديقة لي ركوب السيارة. كنا نعد الثواني لعام منتظرتين هذه اللحظة! تقرر أن يذهبوا بالسيارة وقد نلحق بهم. تحرك أصدقاءنا إلى الطريق الذي تسير فيه السيارات واكملنا نحن الطريق مشيا.

كان الطريق نظيفا من النجف لكربلاء. صناديق واكياس مخصصة للقمامة. إضافة إلى متطوعين ينظفون الطريق.

بعد العمود خمسة تساقطر مطر خفيف. كان مشهدا رائعا. أكمل الناس مشيهم، نساء ورجال وأطفال وكبار في السن، عراقيون وغير عراقيين، إلى كربلاء. يشتدّ المطر مع كلّ لحظة.

وصلنا حوالي الساعة السادسة مساء إلى عمود 175. القوت قد تأخر للوصل إلى الأصدقاء. كنا نبحث عن مكان نبيت فيه. أين سنذهب؟ سمعت أنه من الصعب إيجاد مكان بسبب الزحام. ذهبنا يائستين إلى موكب. كانت مساحة الحسينية ما يقارب الثلاثين مترا وممتلئة بالزوار ولكن بعد حديق صديقتي العربية مع صاحب الحسينية، أعطانا غرفة صغيرة. في الغرفة أسرة. فرشت بطانية على الأرض وجلسنا عليها.

خرجنا من الغرفة لنتوضأ. جلست عائلة إيرانية على الدرج إذ كانت قد قررت إكمال الطريق نصف الليل. يبدو أنّ صاحب البيت قد ترك متع الحياة، وأوقف هو وعائلته حياته للإمام الحسين.

ذهبنا للساحة، كانت صغيرة جدا. كانت هناك غسالتا ثياب جديدتين مخصصة للزوار. انشغل الزوار بغسل ثيابهم. غسلتي جادري ووضعته على الحبل. غيّر أصحاب البيوت منازلهم من أجل هذه الأيام فقط. تغييرات من أجل واحد وعشرين يوما فقط! أرى كم أنا بعيدة عن الحياة الحقيقية! أريد من كلّ قلبي أن أرى هذه المشاهد دائما وأن أكون ضيفة العراقيين وأتعلم منهم الحياة.

عدنا للغرفة وصلينا. كانت صاحبة البيت امرأة متوسطة العمر ولكنها لا تتركنا لوحدنا. متى ما حصلت على فرصة تأتي نحونا وتتكلمي مع صديقتي. بعد الساعة التاسعة مساء زاد عدد الضيوف. تأتي صاحبة البيت لأخذ صديقتي لتتحدث مع الزوار الإيرانيين وتترجم لها.

أحضروا لنا العشاء ولكننا كنا متعبتين حتى أننا لم نأكل. كنا قد قطنا طريقا طويلا. وخلافا للاعوام السابقة كنا نسير مساء لنستريح بعد صلاة الصبح.

نامت صاحبة البيت مع أطفال كثرين في المطبخ. تحضرنا للسير بعد الصلاة. وقبل أن نتحرك، اهديت صاحبة البيت وردا وسكر نبات وحبات النعناع وشكرناها وخرجنا من البيت حتى نسير لصباح آخر في طريق الحسين، طريق الحبّ. (1)

 

  1. أقدّم هذا النصّ إلى كلّ زوار الأربعين في أقصى نقاط العالم حيث ماتوا بمرض الكورونا ودُفنوا غرباء.

النصّ الفارسي



 
عدد الزوار: 1994



http://oral-history.ir/?page=post&id=9515